النقيب محمود الدسوقي.. قلبٌ برتبة إنسان

بقلم: ياسر محمد – نائب رئيس تحرير أخبار اليوم
حين يتوارى القانون خلف دمعة عجوز في زمنٍ صار فيه القانون يُكتب بالحبر أكثر مما يُسقى بالرحمة، وبين جدرانٍ تئنُّ من الصراخ اليومي وشكاوى المقهورين، وُلد مشهد نادر… مشهد لا تُصنعه الكاميرات، ولا يُفبركه سيناريو، بل تحكيه دمعةٌ سالت على خدِّ سيدةٍ عجوز، سُرقت منها سنواتها، ولم يبقَ لها من الدنيا سوى عصا تُعينها، وكرامة تُكافح من أجل أن تظل مرفوعة.
دخلت إلى قسم الشرطة لا لتطلب معروفًا، بل لتسترد حقًا ضاع بين أقدام الزحام. خطواتها المرتعشة لم تُلفت انتباه أحد، وصوتها الخافت لم يسمعه من غلبهم الروتين، إلا واحدًا… رجلٌ لم يُغره بريق الرتبة، ولم تُنسيه الملفات المكدسة أن هناك إنسانة تستغيث بصمت.
ذلك الرجل لم يكن بطلًا من ورق، بل ضابطًا من لحمٍ ودم، يحمل فوق كتفه رتبة، لكن في صدره قلبًا أنقى من الماء. لم ينتظر أن يُقال له “افعل”، ولم يُبالِ بنظرات من حوله. فقط تحرّك… كأنما التقط قلبه صرخةً لا يسمعها إلا أصحاب الفطرة النقية.
انحنى أمام العجوز… لا إذلالًا، بل توقيرًا. أمسك بيدها كما لو كان ابنها، ومسح عن كرامتها غبار السنين. لم يُدخلها فقط مكتبه، بل أدخلها دفء الإنسانية. قال لها بجبر خاطرٍ نادر:
“هذا مكتبي يا أمي… لكنه اليوم بيتك، وأنا ابنك اللي هيسمعك قبل أي إجراء.”
أرأيت مثل هذا المشهد في نشرات الأخبار؟
هل شاهدت في حياتك قلبًا برتبة نقيب، يُحاكم القسوة بلمسة حنان؟
إنه النقيب محمود الدسوقي… رجل لا تُعرّفه الرتب، بل تُنصفه الأفعال.
ابن الأصول.. وميراث القيم
لم يأتِ هذا النبل من فراغ. فالنقيب محمود الدسوقي لم يتعلّم الأخلاق من الكُتب، بل رضعها من صدر أمٍّ كانت تقول له: “اللي يمد إيده للحق، لازم يمدها للضعيف أولًا.”
نشأ في بيتٍ يرى في الكلمة أمانة، وفي الشرف مبدأ، وفي الناس قلوبًا لا ملفات. فصار يحمل هذا الميراث في كل موقف، ويكتبه بمداد من الرحمة على وجوه من لجأوا إليه.
حين تكلم القلب… وسكتت الرتبة
ما فعله الدسوقي لم يكن استثناءً، بل هو عادةٌ يومية في سجله المهني. زملاؤه يرونه يفتح باب مكتبه لكل من ضاقت به الدنيا، ويؤمن بأن هيبة الشرطة لا تُقاس بالصوت العالي، بل بالصمت الذي يُداوي وجع الناس.
في تحقيقاته، يُدقق في الكلمات كما يُدقق الطبيب في نبضات مريض. يسأل العجوز لا كضابطٍ، بل كابنٍ يسعى لإعادة الحياة في عيني أمه. ولما انتهى من تحرير محضرها، أصرَّ أن يُرافقها بنفسه حتى الباب، وهو يقول بابتسامته الهادئة: “دعوة منكِ تكفيني… ربنا يحفظك.”
رسالة يتجاوز صداها جدران المركز
هل هناك أشرف من هذا المشهد؟
أن ترى ضابطًا يُلغي المسافة بينه وبين الناس، يُذيب حاجز الخوف بابتسامة، ويُعيد تعريف القانون بأنه “رحمة تسير على الأرض”.
في وقتٍ نُحاصر فيه يوميًا بصور القسوة والجمود، يأتينا النقيب محمود الدسوقي كرسالة حيّة تقول: “لا يزال الخير موجودًا… فقط ابحث عنه في أصحاب القلوب البيضاء”.
لماذا نحكي عن محمود الدسوقي؟
لأننا بحاجة لأمثاله… لنُذكّر أنفسنا أن هناك رجالًا اختاروا أن يكونوا “بشرًا” قبل أن يكونوا “موظفين”، وأن هناك رُتبًا تُعلّق على الكتف، وأخرى تُغرس في القلوب.
محمود الدسوقي لا يحتاج إلى وسام. هو نفسه وسام. شهادة حيّة أن الإنسان حين يتحلى بالأخلاق، يُصبح القانون أكثر عدلًا، والحياة أكثر احتمالًا.
ختامًا إلى من يقرأ هذه الكلمات… لا تبحث عن الأبطال في الشاشات، فهم يسيرون بيننا، فقط تعلّم كيف تراهم.